كيف ألغيت الجغرافيا من تاريخ العراق؟

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
31/01/2009 06:00 AM
GMT



المؤمن ِبشرُه في وجهه وألمه في قلبه، كما في الحديث النبوي الشريف. ونستهل البِشر بحكمة سومرية عمرها خمسة آلاف عام تقول: "ما تم تدميره يعود للإله، ولا أحد قادر على أخذه". وهذا هو العراق اليوم، حيث يعترف رئيس الوزراء نوري المالكي في خطبه الأخيرة بأن "الروح الطائفية تقف خلف كل مأساة وكادت تقود العراق إلى حرب أهلية، وتقف خلف الدماء التي سالت والتدمير والتعطيل".

وقد يتقبل العراقيون بالبشر وعد المالكي: "لقد أعلنا الحرب على الطائفية"، ويتغاضون عن تشكيك صحف أميركية بأن تصريحات المالكي تكتيك انتخابي لسحب البساط من تحت قدمي "المجلس الأعلى الإسلامي" المنافس لحزبه (الدعوة). لكن كيف يمكن نسيان أن كلا الحزبين الحاكمين قام على أساس طائفي، وان كليهما مسؤول عن الطائفية التي يقول المالكي الآن عنها إنها "حصدت الكثير من الأرواح وجرّت البلاد إلى الهاوية وإلى محاولات التقسيم التي تعرض لها العراق".

وتأتي هذه التصريحات في ظروف الانتخابات المحلية التي كشفت الهوية الجغرافية للعراقيين، وأظهرت ردود أفعالهم المناهضة للفساد والتزوير، وبيّنت رفض كثيرين منهم المشاركة في الانتخابات. وتؤكد مواقف العراقيين أن العراق ولدته الجغرافيا، وتاريخه القديم والحديث، كتاريخه المستقبلي، تحدده الجغرافيا.

وعلى الضد من ذلك، تتفق النظرة الطائفية والغربية في التعمية على الواقعة الجغرافية للبلد، وتعجز عن رؤية المشهد الخلاب لفسيفساء التنوع الديني والمذهبي والقومي للسكان. ويثير هذا التوافق تساؤلات عن سبب إلغاء الجغرافيا من تاريخ العراق، وإنكار الوجود الجغرافي للدولة العراقية، وتجاهل الوحدة الجغرافية للسكان، وكيف استبدلت الانتماءات الجغرافية للأرياف والمدن والأقاليم بالانتماءات المذهبية والإثنية، ولماذا يحذف الموقع المركزي للعاصمة بغداد من الخريطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلد؟ نجد بعض الأجوبة عن هذه الأسئلة في كتاب صدر بالإنجليزية عنوانه: "عراقٌ بأقاليمه" An Iraq of Its Regions.

ويعتمد الكتاب الذي ساهمت في تأليفه مجموعة من الباحثين الأكاديميين الغربيين مبدأ المناطق أو الأقاليم بمفهومها الجغرافي، وفيه يظهر أن واقع العراق أكثر تعقيداً من التركيبة الطائفية أو الإثنية، وأن المفهوم الجغرافي هو الذي يحدد هوية العراقيين وانتماءاتهم. ويورد الكتاب أمثلة عن ساكن جنوب العراق، الذي يعتبر نفسه "قرناويا" أي من مدينة "القرنة"، أو "بصراويا" من البصرة، أو "جنوبيا" على وجه العموم، وليس بالأحرى شيعيا أو سنيا. والأمر نفسه بالنسبة لمدن ومناطق تعتبر سنية إلاّ أن ساكنها يعتبر نفسه "تكريتيا" أو "فلّوجيا" أو "راويا". وحتى الأكراد المتمسكين بانتمائهم الإثني يتعلقون بهوياتهم الجغرافية، ويعتبرون أصولهم ما بين الريف والمدن أنساباً ينتمون إليها، وتضفي التعددية على ثقافاتهم، وولائهم السياسي والحزبي.

ويمكن اعتبار صدور كتاب كهذا حدثاً في المكتبة الغربية، ليس لقلة الكتب عن العراق، بل لكثرتها. فالكتب عن العراق حققت أرقاماً قياسية في تاريخ النشر العالمي، ويصلح في تقييم كثير منها المثل السومري الساخر: "الكلام إلى ما لا نهاية هو أكثر ما يشغل بال البشر". وبالكلام إلى ما لا نهاية "يهمّشُ مؤرخو القرن العشرين الانتماءات الجغرافية للعراقيين". يذكر ذلك الباحث النرويجي "رايدر فيسر" الذي أشرف على تحرير كتاب "عراق بأقاليمه". ويستقصي الباحث تفاصيل ما يعتبره "سرقة التراث الإقليمي" للعراق، ويفضح "المغالطة الأكثر انتشاراً" التي تضفي الطابع الطائفي والإثني على تقسيم الولايات العثمانية للعراق.

ويتابع الباحث التصوير الغربي المضلل الذي يذهب أبعد من تصنيف ولايات العراق العثمانية ليشمل العلاقات التاريخية بينها. ويكشف أن التقسيم الإداري للعراق ما بين البصرة وبغداد والموصل لم يكن قد مضى عليه سوى 30 عاماً عند وقوع الاحتلال البريطاني عام 1914. قبل ذلك كان البلد خلال فترات طويلة موحداً إدارياً ومركزه بغداد. وتمتد هذه الفترات أحياناً حوالي قرن، كما حدث خلال الفترة بين منتصفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقبلها في منتصف القرن السابع عشر. وبقيت بغداد حتى في فترات التقسيم الإداري الشكلي مركز قيادة القوات العسكرية المتواجدة في الأقاليم المختلفة، وظلت بغداد غالباً ممسكة بمقاليد السلطة القضائية العليا في البلد.

ويتهم الباحث المؤرخين الغربيين في القرن العشرين بتزييف تاريخ العراق، واختزال واقعه الغني والمتنوع والمعقد بمقياس السنة والشيعة والعرب والأكراد. وقد وافقت هذه النظرة التبسيطية المزيفة الفكر الاستراتيجي الغربي، واستجابت لمتطلبات الإعلام الغربي في تغطية، ليس فقط ما حدث في العراق بعد احتلاله عام 2003، بل تاريخه الممتد آلاف الأعوام.

ويصعب حالياً إيجاد كتب تعريفية بتاريخ العراق لا تعتبر المجتمعات الإثنية والمذهبية الكبيرة الوحدات الأساسية الثلاث للتحليل. وقد ساعدت المتطلبات العملية والحاجة إلى حلول جاهزة على نشر هذا الاعتقاد. فالباحثون في العلوم السياسية والاجتماعية، الذين لا يملكون خلفية باللغات والأديان المحلية في العراق تشبثوا بهذه النظرة لتصوير العراق ككيان اصطناعي، وكدولة اعتباطية بدون تراث إقليمي ولا يوجد فيها سوى مجتمعات طائفية. ويلاءَم هذا التعامل مع البلد كصفحة بيضاء قابلة للتصميم وفق مخططات مسبقة.

ويحمّل الباحث المستشرقين الغربيين، ومن تبعهم أحياناً من أكاديميين عرب، مسؤولية المساهمة في إشاعة هذه النظرة التبسيطية، وهي نظرة لا تنكر وقائع التاريخ فحسب بل تلغي التراث الغني للمؤرخين والمفكرين العرب والمسلمين. ويشير الباحث إلى الاعتقاد المضلل لعالم الاجتماع المشهور ماكس فيبر، وغيره من المفكرين الغربيين الذين يغفلون التنوع الجغرافي والإقليمي للدولة الإسلامية، ولا يرون فيها سوى مفاصل عمرانية جشعة في جمع الضرائب من سكان الأرياف.

وينسب المفكرون الغربيون إلى العالم العربي والإسلامي نمط الحروب الدينية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وقد لعب ظهور الكنائس التابعة للدولة، والطبعات المحلية للكتاب المقدس، دوراً مهماً في النزعة الأوروبية في التفكير بالدين واللغة بمصطلحات إقليمية يتعاملون وفقها مع العالم العربي والإسلامي.

وفي حين لا يعير الباحثون الغربيون أي اعتبار لانتساب العراقيين إلى الأماكن الجغرافية، يرى فيها الباحث النرويجي أحجار بناء عراق المستقبل. ويؤكد على أن لهذه "المناطق" أو "الأقاليم" الجغرافية إمكانات عظيمة، فهي إضافة إلى أنها تملك أبعاداً تاريخية، لم تتلوث بالأيديولوجيات، وقد تكون الدواء الناجع من خطر الحرب الطائفية التي لا تمثل في تقديره سوى حوادث متفرقة في تاريخ العراق.

ويمثل الكتاب معضلة الانفصام بين وجهات النظر الغربية الجاهلة المتسلطة والتراث الباهر لعلماء الآثار الغربيين الذين اكتشفوا ميلاد التاريخ العالمي في أحضان الجغرافيا العراقية، وأطلقوا اسم ومكان "بلاد ما بين النهرين" على أولى الحضارات العالمية. وقد لا نجد تفسيراً لهذا الانفصام غير قول المفكر الأفريقي المشهور فرانتز فانون: "لا يكتفي الاستعمار بتكبيل الشعب، ولا يكتفي بأن يفرغ عقل المستََعمَر من كل شكل وكل مضمون، بل يتجه أيضاً إلى ماضي الشعب المضطهد فيحاول بنوع من فجور المنطق أن يهدمه ويشوهه ويبيده".